من أعظم و أجل القصص التي رُويت لنا و ما زال يسطّرها التاريخ
هي قصص صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم
مواقف تضحيات بطولات عبر
و لعلّ في قصّة خبيب بن عدي رضي الله عنه الكثير من المعاني و العبر
فهذا الصحابي لُقّب بـ " بليع الأرض" .
..... القصّة بدأت عندما أراد النبي صلى الله عليهم و سلم أن يستلطع
عن أحدث أخبار قريش فأرسل عشرة من أصحابه بقيادة عاصم بن ثابت رضي الله عنه توجهوا نحو مكّة في محاولة لتصيّد الأخبار و معرفة الأوضاع ، و كان من ضمن العشرة "خبيب بن عدي " رضي الله عنه ،
أحسّ بهؤلاء العشرة قوم من بني لحيـان فخرج منهم 100 رجل
يتتبعون آثار الصحابة ، و عندما أحسّ عاصم رضي الله عنه بخطورة الموقف آوى إلى قمة جبل هو و أصحابه ، لكن بني لحيان فطنوا لهم
فحاصروهم و طلبوا منهم الاستسلام مقابل الأمـان ،
لكن عاصم رضي الله عنه أبى أن يكون في ذمة المشركين و قال لهم :
"أما أنا فوالله لا أنزل في ذمّة مشرك ، اللهم اخبر عنّا نبيّك " .
و عندما وجد بنو لحيان هذا الاستبسال و تلك الشجاعة لم يجدوا
بدا من القتال فرموهم بالسهام حتى اُستشهد من صحابة رسول الله صلى الله عليهم و سلم سبعة ،
منهم عاصم رضي الله عنه و لم يتبقّ من العشرة إلا ثلاثة
" خبيب بن عدي - زيد بن دثنة- مرثد بن أبي مرثد " رضوان الله عليهم .
و عندما أحس مرثد برائحة الغدر تفوح من هؤلاء حاول الهرب لكنه لم يسطع
فنال شرف الشهادة رضي الله عنه ،
و بقي الآخران أسيران لدى المشركين الذين غدروا بهم بالفعل و توجهوا بهم إلى مكة لبيعهما على مشركي مكّة .
سمع بنو الحارث بأن خبيبا قد أتى إلى مكة فثارت ثائرتهم
و بدأت النيران تكوي قلوبهم كيف لا و خبيب قد قتل الحارث بن عامر بن نوفل أحد زعماء بني الحارث .
أسرع بنو الحارث إلى خبيب و قاموا بشرائه و كبّلوه بالقيود ،
و حبسوه أسيرا في بيت عقبة بن الحارث ،
و ذات يوم دخلت إحدى بنات بني الحارث على خبيب فوجدته يأكل عنقودا من العنب فخرجت تصيح إلى قومها و تصرخ فيهم :
والله لقد رأيته يحمل قطفًا كبيرًا من عنب يأكل منه ، وإنه لموثق في الحديد ، وما بمكة كلها ثمرة عنب واحدة ، ما أظنه إلا رزقًا رزقه الله خبيبًا .
و حينما أجمع المشركون على قتل خبيب رضي الله عنه و النيل منه و التشفي
بقتله مما أصابهم في بدر استعار خبيب موسا من إحدى نساء بني الحارث
ليستحدّ به ، و كان لـ المرأة صبي صغير غفلت عنه قليلا فما كادت تلتفتُ تبحث عن ابنها حتى وجدته في حضن خبيب رضي الله عنها فصرخت و ولولت فما كان من خبيب إلا أن قال :
" أتخشين أن أقتله ؟ ما كنتُ لأفعل إن شاء الله " ،
فما كان من المرأة إلى أن تقول بعد حين : ما رأيت أسيرا خيرا من خبيب .
أتت شياطين قريش تمشي إلى خبيب تريدُ أن تعرض عليه صفقة النجاة ، فدخلوا عليه و أنبؤوا خبيبا بـ قتلهم لـ زيد بن دثنة رضي الله عنه
و أخذوا يهددونه بالمثل إن هو بقي على دين محمّد و لم يعد لعبادة الأصنام و الأوثان ، و لكن .. أي جبل يريدون أن يزعزعوا ؟
و أي إيمان يريدون أن يطردوه بعد أن ذاق خبيبٌ حلاوته ؟ ، فلمّا يئسوا منه أخرجوه إلى مكان يُسمى التنعيم بنية صلبه و قتله ،
حينها استأذن خبيبٌ أن يصلي ركعتين فأذنوا له فلما فرغ قال
: " و الله لولا أن تحسبوا أن بي جزعا من الموت لاستزدتُ من الصلاة" ، ثم قال :
و لستُ أبالي حين أُقتل مسلما --- على أيّ جنب كان في الله مصرعي
و ذلك في ذات الإله و إن يشأ --- يبارك على أوصال شلو مـمـزّعِ
رفعوا سيوفهم حينها ليقتلوه ، رأى خبيب رضي الله عنه بريق السيوف فلم يزده
إلا إيمانا و ثباتا على منهج الحق ، و قبل أن يتمكنوا منه قام إليه أحد زعماء قريش ليسأله : أتحب أن محمدا مكانك ، وأنت سليم معافى في أهلك ؟
فيجيب خبيب فيهم قائلا :
والله ما أحب أني في أهلي وولدي ، معي عافية الدنيا ونعيمها ،
ويصاب رسول الله بشوكة .
إنّها ذات الكلمات التي يقولها أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم ،
فهذه الكلمات ليست غريبة على أسماع قريش فقد قالها بالأمس زيد بن دثنة
و قالها من قبلهم عشرات الأسرى و العبيد الذين عُذبوا و اُضطهدوا من قبل زبانية قريش ، فما كان من أبي سفيان - قبل إسلامه -
إلا أن يقول حينها :
و الله ما رأيتُ أحدا يحب أحدا كما يحب أصحاب محمدٍ محمداً .
أغاظت كلمات خبيب مشركي قريش فاستشاط غضبهم و احمرّت عيونهم و
ضربوه بسيوفهم حتى صعدت روحه إلى السماء في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر .
ظل جثمان خبيب رضي الله عنه معلقٌ على تلك السارية التي صُلب عليها ،
و الوحي في المدينة يخبر خير المرسلين بما حدث لـ خبيب و أصحابه ،
حزن النبي صلى الله عليه و سلم على أصحابه حزنا شديدا و على حال
خبيب و هو معلّق في سارية في ضواحي مكّة ، فأرسل المقداد بن عمرو و الزبير بن عوّام رضي الله عنهم إلى مكّة ليجلبوا جثمان خبيب إلى المدينة ،
خرج الصحابيّان الجليلان إلى مكة مسافرين تلبية لطلب الرسول صلى الله عليه و سلم ، و عندما اقتربوا من مكة انتظروا ولوج الليل حتى لا يراهم الناس ،
أتى الليل و تسلّل الزبير و المقداد إلى ساحة التنعيم ،
و عندما أنزلوه من السارية فطن لهم جمع من المشركين فركبوا خيولهم و لحقوا بهم ، لم تسر الأحداث كما أرادها المقداد و الزبير رضي الله عنهما ،
فجثمان خبيب الذي كان على ظهر خيل لهم سقط على الأرض ،
و لم يكن من المستحسن أن يعودوا إليها حتى لا يقعوا في قبضة المشركين ،
و لله الحكمة البالغة في أمره إذ شاء أن لا يعود جثمان خبيب إلى
المشركين مرة أخرى ، فشُقّت الأرض و اُبتلع الجثمان ، و أُصيب
المشركون بالدهشة إذ أين ذهب الجثمان ؟ ابتلعته الأرض و حماه الله من
أيدي المشركين و على هذا لُقّب خبيب بن عدي رضي الله عنه
بـ " بليع الأرض " / ،