[b]الطائف: طارق الثقفي
كشفت جولة "الوطن" داخل مستشفى الصحة النفسية بالطائف المعروف باسم "شهار" عن انتهاك خصوصية المرضى، وحرمانهم من أبسط حقوقهم في الغسل بشكل انفرادي حيث يزج بهم جماعات إلى داخل حمامات المستشفى ليغتسلوا بصورة جماعية. وتكشف خلال الجولة تجاهل خصوصية المريض في الطهارة رغم وجود تعليمات حكومية وإدارية بشأن التعامل مع أصحاب هذه الحالات، والتي تنص على عدم تعريض المريض لأي إهانة نفسية أو جسدية أو التقليل من شأنه أو معاملته بطريقة غير لائقة لأي سبب من الأسباب ومحاسبة أي متسبب في ذلك. جاءت الجولة بعد ورود عدد من الشكاوى إلى "الوطن".
ولم يخل المشهد داخل المستشفى من مآس أخرى حيث تظهر عورات المرضى أمام بعضهم البعض.
وأظهرت الجولة كذلك حجم معاناة هؤلاء المرضى، الذين يبلغ عددهم حوالي 600 مريض. وعلمت "الوطن" من مصدر مسؤول أن هذه المواقف تحدث يوميا وفي وضح النهار حيث يسحب مرضى الصحة النفسية مجموعات نحو حمامات المستشفى، وتمد لهم خراطيش الماء من وايتات الأشياب ذات الضغط العالي، ليقوم عمال النظافة في المستشفى بغسلهم مثلما يتولون تنظيف صالات المستشفى وفنائه. ويتعرض المرضى أحياناً لرش أجسادهم بالماء الملوث.
كما أضحى المرضى المغلوبون على أمرهم فريسة سهلة لانتقال العدوى والأمراض مثل الزهري نظرا لتلاصق أجسادهم خلال عملية الغسيل.
وبدا واضحا وجليا أن هذه الممارسات والضغوط لم تكن وليدة اللحظة بل كانت منذ فترة بعيدة فبدلا من تنظيف كل واحد منهم على حده، يختصر عمال التنظيف الوقت في غسلهم. وقد وفر عليهم خرطوش الأشياب الكثير حيث يمسك عمال النظافة هذه الخراطيش ويوجهونها نحو أجسادهم واحدا تلو الآخر وجماعة تلو الأخرى، ولا يملك هؤلاء المرضى النفسيون غير تغطية عيونهم أو إغلاقها عند الغسل، لأن ذلك هو السبيل الأوحد لهم لتخفيف المعاناة والصبر على المعاملة البائسة التي يواجهونها.
وقد اعتاد أهالي المرضى النفسيين وضع ذويهم في المستشفى لاعتقادهم أنه الملاذ الآمن والطريقة المثلى لعلاجهم وأن الرعاية المقدمة لهم في أفضل حالاتها، لكن صورة الواقع المؤلمة تطيح بهذه الثقة وهذه الأماني التي ينتظرها ذوو هؤلاء المرضى.
اعتراف بوجود تجاوزات
وللوقوف على مجريات الأمور، التقت "الوطن" مساعد مدير المستشفى الدكتور يوسف الشاووش الذي اعترف بوجود بعض التجاوزات لأن المستشفى يضم شريحة كبيرة من الكادر التمريضي فيهم النادر والغث على حد قوله. وأكد الشاووش أن احتمال وجود أخطاء أمر وارد، لكنه قال إنه متى ما ثبت وجود أي تجاوز أو تعد على المريض أو كرامته، فسيتم اتخاذ الإجراءات الصارمة والرادعة حيال ذلك.
وأصر الشاووش على أن معاملة المستشفى للمرضى هي معاملة إنسانية، مشيرا إلى أن المريض له حقوق معينة ومحفوظة وأن أي إنسان يحاول التعدي على حقوق المريض النفسي يكون عرضةًً للعقاب. أما مسألة الحفاظ على خصوصية المريض وإنسانيته في استحمامه أو طريقة أكله وشربه فهذه واجبات وأي إخلال بها يعتبر مخالفة يتعرض مرتكبها للعقاب. وأضاف الشاووش أن هذه الحالات إن حصلت فهي تحصل من أشخاص بشكل نادر وإن وصلت هذه التجاوزات لأحد المسؤولين فهو يسارع بالبت فيها بتوقيع العقاب على المخالف. كما يتم أيضا التنويه عن العقاب بشدة. وأشار إلى أن إدارة المستشفى وضعت معايير وسياسات داخلية للحفاظ على حقوق المرضى تنص على أن أي شخص يتعدى على حقوق المرضى يكون عرضة للعقاب.
وأضاف أن المريض النفسي له خصوصية معينة في التعبير توحي بمشاكله أو المخالفات التي يمكن أن يتعرض لها، وهذا يعتمد على الناس الموجودين والعاملين الذين يجب أن يخلصوا في عملهم ويتعاملوا بإنسانية مع كل المرضى الموجودين بمختلف ثقافاتهم وتعليمهم ووظائفهم. كما أكد أن الإدارة تسعى لإيجاد رقابة معينة تضمن مراعاة حقوق المريض حيث يقوم الاختصاصيون الاجتماعيون بسؤال المرضى كلهم عن الخدمات المقدمة لهم، لكن الأمر في النهاية يخضع للممرض المشرف على المريض مباشرة، ويعتمد على مقدار إيمان الممرضين وثقافتهم وإخلاصهم في العمل ومدى تقواهم وخوفهم من الله عز وجل في المعاملة مع المرضى النفسيين.. وإذا حدث انتهاك لحقوق المريض، يتم توقيع عقوبة مشددة على مرتكب المخالفة. وأوضح الشاووش أن العقاب يكون على حسب المخالفة، فإذا وصلت الإدارة أي مخالفة يتم تحويلها للتفتيش والتحقيق، ويجري التحقيق على جزءين، الأول إداري والثاني فني، فالمخالفة الإدارية يعاقب عليها بشكل معين والفنية كذلك وهى تحظى باهتمام مدير المستشفى ويتابعها بنفسه خاصة إذا كان المريض طرفا في مشكلة، فتتم العقوبة بالإنذار بالأشياء الخفيفة والبسيطة مثل الخصم من الراتب، وقد تصل إلى رفع أوراق المخالف للشؤون الصحية.
وأكد أن إدارة المستشفى تتدخل لحل النزاعات الفردية حيث تحول الإدارة الملف للتحقيق،ويعرض بعدها على مدير المستشفى لاتخاذ التوصية المناسبة. وأضاف الشاووش أن هناك أكثر من ألف موظف بالمستشفى، ولا يخلو الأمر من وجود الشاذ والنادر بينهم، فالشاذ الذي يمكن أن تتسم تصرفاته بالعنف أو ذلك الذي يتعدى على شيء من حقوق المرضى يتم التعامل معهم بشكل فردي حسب كل حالة ويوقع العقاب الرادع على المخالف.
وحول مسألة غسل المرضى، أشار مساعد مدير المستشفى إلى أن المرضى في الجناحين الرابع والخامس الذين يعانون من انفصال وتخلف عقلي يتم غسلهم بشكل ثنائي.
ضياع ثقة أهالي المرضى
أما الباحث النفسي حسين بن حميد الثقفي مدير معهد السباعي بالطائف، فقد علق على الموضوع قائلا إن ما حصل يعد انتهاكاً للإنسانية ويتنافى كليا مع أخلاقيات المهنة الطبية. وقال إن من فعل ذلك أصابته حالة من التبلد في المشاعر والأحاسيس ما جعله في غياب قيمي وحسي وجسدي أفقده الشعور بالمسؤولية وأصابه بالوهن الأخلاقي. وأضاف الثقفي أن آلاف الأسر ستفقد الثقة بشكل كبير نتيجة ما آلت إليه الأمور وأن العمل الدؤوب والمخلص من قبل الاختصاصيين والأطباء من أجل تحسين صورة المريض النفسي تجاه المجتمع وأنه عضو فعال بل وأبعد من ذلك تسميته في بعض المدارس العلاجية بالعميل بدل المريض.. كل هذه الجهود تبددت في السراب.
وأضاف أن هيئة التخصصات الصحية أصدرت كتابا عن أخلاقيات المهنة لا يحيد عنه ولا يزوغ عنه أي إنسان ينتمي لهذه المنظومة المتكاملة.
أسباب المشكلة
وحاول الباحث النفسي تشخيص أبعاد المشكلة إلى عدة نقاط محورية منها عدم وجود عددٍ كاف من الاختصاصيين النفسيين المتخصصين في الصحة النفسية، وإذا لم يتم توفير متخصصين يستطيعون التشخيص من خلال الأعراض الموجودة والمقاييس النفسية المعروفة لديهم فإن المرض قد يستفحل ويصبح مرضا عضويا يستوجب تدخل الطبيب النفسي الذي عادة ما يركز على العلاج الدوائي والعقاقير. أما السبب الثاني فهو سيطرة بعض الأطباء النفسيين على التشخيص والعلاج وإهمال ما يسمى بالفريق العلاجي الذي يضم الأخصائي النفسي والاجتماعي وذوي العلاقة بالإضافة للطبيب. أما الثالث فهو نشوء نوع من الصراع الفني والضمني بين الطبيب والأخصائي على اعتبار أن كلا منهما يعتبر حاله الأفضل لأن الأطباء عادة هم أصحاب القرار الإداري والفني. وبذلك، فقد الأخصائي مهنته بل ربما ولاءه المطلق لمهنته، وقد يوكلها إلى أحد الفنيين إن لم يكن أحد العاملين فتولد حالات من اللامبالاة. أما السبب الرابع فهو تضخم اللامبالاة عند أحدهما (الأخصائي أو الطبيب) وعدم وجود وازع ديني في ظل معاناة البعض من شح البدلات مثل بدل النفسية وبدل الخطر ما يزيد من الأمر سوءا. أما السبب الخامس فيتمثل في الفريق التمريضي الذي يعتمد عليه كثيرا ويحتاج إلى مزيد من الدورات المتخصصة والاعتراف بجهوده الجبارة كذلك، فبالرغم من أن الاتجاه نحو مهنة التمريض اتجاه سلبي نوعا ما من قبل العاملين، فما بالنا عندما يكون في مستشفيات الصحة النفسية. وأوضح الثقفي أن هناك نوعا من الضبابية بين المستشفى والمريض والأسرة تحتاج إلى مزيد من الوضوح والشفافية