القوى والدوافع التي تحركنا وتتحكم بنا
إن القوى التي تحرك وتتحكم بكل إنسان تابعة لخصائص البنيات التي تؤلفه , وبنية الإنسان مؤلفة من عدد هائل من البنيات المتنوعة ومن مستويات مختلفة . فهناك بنياته الفيزيائية والفزيولوجية وبنيات خلاياه وأجهزته وأعضائه ، وبشكل خاص بنية جهازه العصبي وبالذات دماغه , وهذه البنيات متفاعلة مع بعضها ضمن توازنات أو دورات من التوازن المستقرة , وضمن حدود معينة . وهذا ينتج خصائص متنوع لطبيعة القوى أو الدوافع , التي توجه وتتحكم بتصرفات واستجابات كل منا.
ودوافع الإنسان تابعة أيضا لتأثيرات البنيات الخارجية عليه , وهذه التأثيرات كثيرة ومتنوعة بشكل كبير . وهي من أنواع ومستويات كثيرة مختلفة , فيزيائية, وكيميائية , و فزيولوجية , وعصبية , ونفسية , وفكرية , واجتماعية وهذه أصبحت واسعة جداً الآن ....
و يظل التأثير الأكبر الذي يقرر استجاباتنا وتصرفاتنا تابع لخصائص وطبيعة عمل الجهاز العصبي . فالكثير من التأثيرات الداخلية والخارجية تحول إلى قوى ومؤثرات عصبية وبالتالي إلى مؤثرات فكرية تولد الاستجابات وتتحكم بتصرفاتنا . وهذا يجعل طبيعة وخصائص وآليات الجهاز العصبي هي التي تدير بالدرجة الأولى دوافع الإنسان , وتأتي بالدرجة الثانية تأثيرات البنيات والأجهزة الأخرى .
إن كل إنسان يملك دوافع كثيرة عند ولادته , فزيولوجية , وعصبية موروثة . وتنشأ لديه كثير من الدوافع أثناء حياته . فالدوافع لديه متنوعة وكثيرة جداً . والدوافع التي تكون لديه عند ولادته هي طرف سلسلة من دوافع أو قوى فيزيائية و فزيولوجية و بيولوجية , موجودة قبل إحساسه أو وعيه بها .
فهناك دوافع أساسية نحو أهداف معينة مسبقاً , موجودة لدى كل إنسان عند ولادته . فالأهداف والدوافع له محددة مسبقاً . فهو يسعى نحو ثدي أمه دون أن يؤثر فيه أو يثيره هذا الثدي أولاً ، أي هو مبرمج مسبقاً على البحث والسعي نحو هدف معين , محتمل وجوده .
فهناك الكثير من هذه الدوافع المعينة مسبقاً لدى الإنسان ( الغرائز ) ، وآليات تكونها تكون موجودة مسبقاً أي هي موروثة , وهذه الدوافع والأهداف تكونت نتيجة حياة وتطور سلسلة الكائنات الحية .
فالدوافع والرغبات منها المدرك والواعي ومنها غير مدرك ولا يتم وعيه , هي قوى تنشأ من تفاعل البنيات التي تكون الكائن الحي , مع بعضها . ومن تفاعل بنية الكائن الحي مع البنيات الخارجية التي تؤثر عليه . وهذه الدوافع لها مجال تأثير وتأثر , وهي لا تظهر إلا في أوضاع معينة وأبعاد معينة .
فالإنسان مؤلف من بنيات كثيرة متنوعة وهو مكون من مجموعها . ولكل إنسان خصائصه التي تحدد شكل وطبيعة تأثره أو استجابته . فهو مؤلف من البنيات الفيزيائية والكيميائية و الفزيولوجية والعصبية والنفسية والفكرية . وهناك تأثيرات البنيات الاجتماعية المتعددة عليه . وهناك تأثير متبادل بين مستويات هذه البنيات جميعها.
إن محصلة تأثير مثير ما أو تأثير بنية ما على الإنسان تابعة لمحصلة ردود بنيات الجسم التي تأثرت بها بطريق مباشر أو غير مباشر . ولكن الرد أو الاستجابة على مثير ما والتحكم بهذا الردود , يكون غالباً تابعاً بشكل أساسي لخصائص البنيات العصبية العليا لديه اي الدماغ .
مثال :
إن تعرض خلايا جسم الإنسان للحرارة العالية يؤثر على تفاعلاتها الكيميائية وبالتالي الفزيولوجية وبالتالي العصبية ، فتحدث استجابة عصبية مناسبة . فإذا كان مصدر الحرارة وعاءاً ساخناً ممسوكاً ترك هذا الوعاء يسقط . ولكن إذا كان ذلك يحدث أضراراً أكبر من الأضرار الحرارة العالية ( حسب تقرير وتقييم عمل الفكر ) , فإن الاستجابة أو الرد لن يكون بترك الوعاء . وهذا معناه أن الاستجابة الفكرية لها القيادة العليا والقرار وبالتالي الاستجابات النهائية , هذا في أغلب الأحيان . ويمكن في بعض الحالات أن لا تنفذ قراراتها و تنفذ أوامر البنيات الفزيولوجية أو النفسية لشدتها وقوتها ، مثل الألم الشديد أو الخوف الشديد وغيره ... ففي هذه الحالات لا تنفذ قرارات الفكر العليا .
ونحن غالباً ما نهتم بالدوافع التي استطعنا إدراكها ، فيمكن لدوافع هامة لبنيتنا ولكن إدراكنا لها ضعيف أو غير موجود , أن لا تلاقي الاهتمام المناسب . فنحن غالباً نعطي الأولوية للدوافع التي أدركناها ووعيناها ، ونضع في المرتبة الثانية الدوافع التي إدراكها ضعيفاً . فيمكن لمؤثر ذو أهمية ضعيفة ولكنه واضح وقوي في الشعور والإدراك , وله أبعاده النفسية والاجتماعية , أن يكون تأثيره كبيراً جداً على بنية الكائن ولا يتناسب مع أهميته الفعلية . فيمكن لكلمة تأنيب أو شتم أن تولد انعكاسات وردود مدمرة لبنية الكائن وذلك نتيجة المعالجة الفكرية للمؤثر وبالتالي تضخيم تأثيراتها الذي يؤدي إلى رد غير مناسب
دور التكوين الشبكي الهام في تشكيل الاستجابات والدوافع :
" توضح الأبحاث الحديثة أن وصول أثر المنبه للقشرة غير كاف ليحدث النشاط الخاص بالمخ وإنما لابد من تهيئة خلايا المخ – القشرة- للعمل, وهذا يتم بفضل العلاقة بين القشرة والتكوين الشبكي , حيث يتم الإدراك وتشكيل المعلومات , ولتلك النظم دور أساسي في عملية الدافعية فإذا لم يتم تهيئا المخ لاستقبال المعلومات التي تعمل كمؤثرات دافعية فإنه لا يمكن القيام بأي عمل , وهناك اتصالات عصبية للقشرة وبين التكوين الشبكي حيث تحدث العمليات العكسية وهي تحكم القشرة في عناصر نظام التكوين الشبكي .
ومن أهم وظائف التكوين الشبكي:
1- التأثير بطريق غير مباشر من خلال أجزاء المخ والحبل الشوكي على تغيير الحالة الوظيفية لها
2- التحكم في حالة النوم واليقظة , وهو المسؤول عن مستوى النشاط العام للمخ
3- يتحكم كيميائياً بالوظائف الدماغية "
أهم الدوافع البشرية الأساسية :
دوافع المحافظة على الذات
دوافع المحافظة على النوع واستمراره , وهي يتضمن الدافع الجنسي والأمومة و دوافع أخرى
دوافع السعي للحصول على اللذة وتحاشي الألم ، أو السعي لتحقيق الأحاسيس المرغوبة وتحاشي الأحاسيس غير المرغوبة .
دوافع اللعب والتقليد أو المحاكاة .
دافع التملك والنمو , والسيطرة .
دافع الانتماء أو العنصرية .
دافع المنافسة والتفوق على الآخرين وتحقيق المكانة العالية.
دافع الإنجاز ، وهو موجود لدينا نحن البشر بشكل مميز , ويغطي مجالاً واسعاً من السلوكيات الموجهة نحو تحقيق هدف .
ويمكن أن نصنف الدوافع إلى :
دوافع فزيولوجية و بيولوجية , وهي التي تنتج الغرائز الموروثة
دوافع عصبية , وهي استجابات وانفعالات وأحاسيس .
دوافع فكرية ، وهي دوافع عصبية متطورة نتيجة المجتمع والثقافة .
دوافع اجتماعية , وهي نتيجة العلاقات الاجتماعية
والدوافع تنتج استجابات كما أن الاستجابات يمكن أن تعود وتنتج دوافع ، وأنواع الاستجابات هي :
استجابات حركية , استجابات عصبية ونفسية وانفعالية , استجابات اجتماعية.
إن لدينا مجموعات كثيرة ومتنوعة من الاستجابات العصبية والفكرية في نفس الوقت ، وهي تؤثر على بعضها وتتداخل مع بعضها ، وعندها ينشأ لدينا عدد هائل من الدارات العصبية المفتوحة والمغلقة . فهذا ما يحدث في الجهاز العصبي أثناء الاستجابات والوعي والتفكير . وليست كل الاستجابات العصبية حسية و واعية , فالاستجابة للمؤثرات تولد دوافع -النوابض المحركة للفعل - ويمكن أن تكون غير واعية .
وهناك الشعور والإدراك والوعي وهو يولد الكثير من الاستجابات , والكثير من الاستجابات الدافعية أو الفعل , تقوم بإحداث استجابات حسية , مثلاً : نخاف فنركض ولأننا نركض خائفين يزداد خوفنا . وكذلك أغلب الأحاسيس يمكن أن تحدث استجابات فعل ، ويمكن أن يحدث ما يشبه الجدل أو التغذية العكسية أو التأثير المتبادل , استجابة فعل تولد إحساساً , وهذا بدوره يولد استجابة فعل , ثم هذه الاستجابة تولد إحساساً .. فتحدث دارة من التغذية العكسية الموجبة التضخمية التي لها آلياتها وخصائصها .
إذاً هناك كمية كبيرة وهائلة من المؤثرات المتنوعة يتعرض لها الجسم والجهاز العصبي فتولد فيه استجابات ودوافع وأحاسيس كثيرة متنوعة . وتحدث ترابطات وتداخلات نتيجة التأثيرات المتزامن ، ونتيجة آليات أخرى ، مما يولد سلاسل من التيارات العصبية , وبالتالي استجابات فعل وأحاسيس تنشئ بدورها تيارات عصبية تولد استجابات . وتبقى هذه التفاعلات والتيارات عاملة إلى أن يتحقق التوازن , ويتم ذلك بطريقتين :
الأولى : الرد على المؤثرات باستجابات فعل وإلغاء تأثيرها , أو التوافق معها مما يؤدي إلى توقف تأثيرها .
والثانية : هي تعديل أو كف ما تولده المؤثرات من تيارات في الجهاز العصبي . هذا إذا لم يتم تحاشي أو إيقاف التأثيرات على الجهاز العصبي ، أو إذا لم تنجح الحالة الأولى .
تشابه الدوافع بين البشر
إن كثيراً من الدوافع لدى البشر تتشابه بصورة كبيرة ، فالدوافع الموروثة تتشابه بينهم أو تتطابق . وكذلك تتطابق الأحاسيس الأولية الأساسية بين كافة الناس , وتتشابه بشكل أقل المشاعر و الإدراكات الواعية .
وهناك تشابهات كبيرة بين أنا أو ذات لكل منا , تمكننا من استعمال نفس الأحكام على دوافعنا وعلى آليات تكونها ، فهناك تشابهات كثيرة تسمح بالتعميم ,مع وجود اختلافات بين كل أنا وأخرى. فالصفعة على الوجه هي مؤلمة لدى غالبية الناس .
وكذلك تتشابه الحواس وآليات الإحساس والانفعال وهذا التشابه هو الذي يسمح بالتواصل بين البشر, بكافة أشكاله، ولولا هذا التشابه , وخاصة في الأحاسيس لما أمكن قيام أي تواصل بين إنسانين . فالوعي والأحاسيس والمشاعر المتشابهة هم الأساس لقيام التواصل بينا ، وبالتالي هم ما سمحوا بنشوء اللغة والثقافة والعلم.
التعامل مع الدوافع الكثيرة المتضاربة ( تنظيم الدوافع والاستجابات )
إننا مدفوعون لتحقيق الكثير من الدوافع ، كما أنه تنشأ لدينا وبشكل مستمر دوافع جديدة . ونحن نشعر بالسعادة عند تحقيق دوافعنا , ونشعر بالألم والإحباط عند عدم تحقيقها .
والقضية الأساسية التي تسبب الإحباط هي محاولة تحقيق مجموعة دوافع في نفس الوقت , مع أن هذا شبه مستحيل ، لأن بعض هذه الدوافع متضارب ومتناقض مع بعضها أي لا يمكن تحقيقها جميعاً في نفس الوقت ، ونحن لا نتبين أو لا نعي أو ندرك ذلك لأنه غير واضح لدينا .
وهناك قضية أخرى يمكن أن تسبب الألم والمعاناة , وهي اختيار دوافع يصعب تحقيقها , أو أن احتمال تحقيقها منخفض نظراً لإمكانياتنا أو ظروفنا . لذلك يكون من المهم تنظيم الدوافع واختيارها بعد دراسة , وتوقيت تحقيقها , لكي نتمكن من خفض نسبة الفشل والإحباط إلى أقل حد ممكن . بالإضافة إلى الاهتمام بتحقيق أكبر قدر من دوافعنا الأساسية والمتاح تحقيقها . ولكن كيف نحدد هذه الدوافع الأساسية ؟
إن أغلب الناس في الوقت الحاضر لا ينتبهون لذلك ، فهم يضعون أو يخلقون كثيراً من الدوافع غير المناسبة لهم ، أوهم يدفعون لتحقيق دوافع لا يستطيعون تحقيقها .
إن رجال الدين الناجحين هم مثال على الناس الذين نجحوا في اختيار وتنظيم وتحقيق دوافعهم ، لذلك هم الذين يحصلون على أكبر قدر من السعادة ، نظراً لأنهم يحققون غالباً أكبر قدر من دوافعهم , ويتعرضون لفشل وإحباط أقل.
إذاً الدوافع متنوعة وكثيرة، ويمكن أن تتضارب مع بعضها لكثرتها وتنوعها , لذلك كان تنظيمها ضرورياً جداً . ولتنظيمها لا بد من معرفة المستقبل أو التنبؤ له بشكل جيد , لكي يتم تحقيق أكبر قدر من هذه الدوافع وبطريقة فعالة .
والإنسان في الوقت الحاضر يوجد دوافع كثيرة جديدة باستمرار، فلم تعد دوافع الحياة الأساسية هي المسيطرة على تصرف بعض الناس ، فلقد أوجد بعض الناس دوافع قويةً جداً , ويمكن أن تتعارض مع دوافع الحياة الأساسية مثل الدافع لتعاطي المخدرات وغيرها . وجميع هذه الدوافع مهما كانت طبيعتها وقوتها إذا كانت لا تتفق مع دوافع الحياة ودوافع المجتمع فإنها سوف تقاوم لأنها لا تتفق مع دوافع الحياة ودوافع المجتمع .
فالأديان والأخلاق, والقوانين ..... هي التي تنظم الدوافع بما يتفق مع فائدة الفرد والمجتمع . فيجب أن تتفق مع دوافع بنية الحياة مع دوافع الإنسان .
فإذا أردنا المحافظة على استمرار بنية الحياة , وبنية المجتمع , وبنية الإنسان , يجب أن نلبي دوافعهم الأساسية التي تمكنهم من الاستمرار و النمو و التطور . لذلك عندما تجعل دوافعك ورغباتك وأهدافك متفقة مع الدوافع الأساسية لبنية الحياة وبنيات المجتمع فسوف يكون احتمال تحقيقها كبيراً ، لأن قوى بنية الحياة كبيرة وذات قدرات هائلة وهي على الأغلب سوف تتحقق ، وبذلك تتجنب الكثير من الفشل - انضم إلى الفريق الرابح - .
نعم إن بنية الحياة لن تحقق دوافعك كلها ولكن من الأفضل لك أن تتبع دوافعها , لأنها أساس جميع دوافعك . فمرجع وأساس جميع دوافعك هو من صنع بنية الحياة , طبعا ًبالإضافة إلى تأثيرات البنيات الأخرى .
والذي يهم كل منا هو الوقت الحالي هو وقت وجوده بالدرجة الأولى , لأنه بعد موته يمكن أن ينتهي كل شيء بالنسبة له , فما يريده كل منا هو السعادة واللذة وتحاشي الألم والمعاناة ، أما مستقبل غيره فيأتي لاحقاً .
إن التحكم بالدوافع والرغبات يحقق الكثير من السعادة , ويجعل الشقاء والألم أقل . وكما ذكرت قامت الأديان والعقائد بتحقيق ذلك بدرجة كبيرة .
ويمكن بدل أن تغير الواقع لكي تحقق دوافعك و رغباتك , قم بتغيير رغباتك لكي تتوافق مع الواقع وبالتالي تتحقق بسهولة ( إن لم يكن ما تريد فأرد ما يكون ) , ابحث عن الممكن بالنسبة لك . فالأديان والعقائد سعت لبناء ونشر أفكار ومناهج للتعامل مع الواقع , تحقيق التوافق بين الدوافع والرغبات مع ما هو متاح وما يمكن تحقيقه